الدوحة اليوم:
صدر عن دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت لبنان، ودار أوبيوس للنشر والتوزيع بمونتريال كندا، كتاب بدو العراق والجزيرة العربية بعيون الرحالة، للدكتور علي عفيفي علي غازي، في 341 صفحة، يتناول، من خلال منهج البحث التاريخي التحليلي المقارن، رؤية الرحالة لقيم وعادات وتقاليد بدو العراق والجزيرة العربية من السادس عشر حتى منتصف القرن العشرين.
يقول الدكتور محجوب الزويري في تقديمه أن الكتاب يركز “على تقديم جوانب من القصص غير المحكية في كتب التاريخ حول البدو وحياتهم في العراق والجزيرة العربية… ويتناول الكتاب أكثر من ثلاثين عنوانًا يتعلق برؤية الرحالة الأوروبيين لبدو العراق والجزيرة العربية. هذه العناوين تعكس في جانب منها الفضول المعرفي الذي يُسيطر على أولئك الرحالة، فحاولوا من خلال رحالتهم أن يُجيبوا على هذا الفضول. ما يُلاحظ في هذا السياق التركيز الكبير على المفردات الاجتماعية لحياة البدو، وهو بالنسبة إلى الأوروبيين معماة غير مفهومة. وما يُقدمه الكتاب هو في الحقيقة تصور أولئك الرحالة المستند إلى وقائع شاهدوا جزءًا كبيرًا منها أو ربما سمعوا عنه… ويُظهر الكتاب جُهدًا بحثيًا موفقًا للدكتور عفيفي في تقديم هذه الموضوعات في إطار لغوي سهل ومترابط، وهو بلا شك يُعين الباحثين والمهتمين في موضوع الرحالة وآثارهم في أن يستمروا في رصد الكثير من كتب الرحالةـ التي ربما لم يتمّ الاطلاع عليهاـ أو ترجمتها إلى اللغة العربية. يُضاف إلى ما قيل أن الكتاب مساهمة جادة في التركيز على محتوى كتب الرحالة ومضامين ما يُقدم فيها”.
يُضيف المؤلف في مقدمته “يجمع هذا الكتاب مقالات تفرقت وتناثر بعضها على صفحات الدوريات والمجلات، إلا أنه يجمعها موضوع واحد بات شُغلي الشاغل منذ تقدمت بخطة أطروحتي للدكتوراه في عام 2010، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أعايش كتابات الرحالة عن المنطقة العربية، أقرأ كل ما يتصل به سمعي منها حتى تكونت لدي حصيلة كبيرة، يُعدّ الكتاب الذي بين أيدينا أول نتائجها المنشورة، إذ يضمّ مجموعة من المقالات تتناول جوانب من حياة بدو العراق والجزيرة العربية من خلال رؤية الرحالة لها، ورصدهم إياها، وتدوينهم تأيدًا أو معارضة، نقدًا أو انفعالا”.
يبدأ الكتاب باستعراض دوافع وأهداف الرحالة عبر العصور، منذ العصور القديمة مرورًا بالرحالة المسلمين، وانتهاءً بالرحالة الغربيين في العصر الحديث، والذين جابوا الشرق، فيبدأ بتعريف كلمة “الرحلة” واشتقاقاتها اللغوية، ثم يُعرّف باصطلاح الرحالة، والمقصود بأدب الرحلات، والأسس التي قام عليها، وأهم ما يُميزه عن غيره من الآداب، ويحاول التأريخ لظهور هذا المصطلح، ومناهج تدوين أدب الرحلة، وفوائد الارتحال،ويحاول الإجابة على سؤال: هل كانت الرحلة عبر التاريخ وقفًا على الرجال دون النساء؟ ويتشابه المنهج بعد ذلك فيتناول الرحالة في العصور القديمة، ثم الرحالة المسلمون، والرحالة في العصور الوسطى، وأخيرًا الرحالة في العصر الحديث، فيُعرّف بأشهرهم، ودوافعهم وأهدافهم. ثم يختم بقائمة بأشهر الرواد من الرحالة الغربيين الذين زاروا الشرق العربي، وتاريخ زيارة كل منهم.
يرصد الكتاب رؤية الرحالة لشيخ القبيلة والعشيرة البدوي، ومكانته الاجتماعية، ومصادر دخله، ومصروفاته، والصفات التي يجب توافرها فيه، كي يتمّ اختياره شيخًا للقبيلة، وكي تنقاد له بكافة رجالاها ونساءها، وتُطيعه، في ظل غياب قوة تفرض سطوته وقوته عليهم، فقط العرف والعادات والتقاليد، فهو لا يحكم بوسائل سلطوية معينة، وإنما فقط بنفوذه وشخصيته البارزة، وهو شيخ لأن القبيلة تعتبره الأكفأ، وأفرادها يُطيعون تعليماته لأنهم يثقون بحكمته وبُعد نظره.
يتناول بعد ذلك رؤية الرحالة للرجل البدوي، والشباب البدوي، والمرأة البدوية، وما أوردوه من قصص الحب المتبادل بين الشباب والشابات، ويرصد كيفية تعامل البدو مع العبيد بينهم، من خلال ما رأوه رأي العين، وسجلوه في كتاباتهم، ليؤكد على أن هذه الفئة من المجتمع البدوي تمتعت بقيمة وقدر عظيمين، وتملكت الحرية في العيش والزواج والتعبير عن رأيهم، فعاشوا حياة حرة كريمة، ليس كما تروج كتابات الغربيين عن سوء معاملة المسلمين لهذه الطائفة من المجتمع، والتي كانت تمثل قيمة اقتصادية واجتماعية عظيمة.
يرصد الكتاب صورة المرأة النجدية بعيون الرحالة البريطانية آن بلنت، كنموذج للرحالة الغربي المعتدل في رؤيته، نجح في اختراق ذلك المكان المغلق، مكمن الأسرار لدى الغربي، ومنهل الملذات والمتع لدى الشرقي، ليرصد بعينيها حقيقة ما رأته، ولمسته، ووصفته، بعيدًا عن نظرتها التعصبية التهكمية اللاذعة. ولا شك أن الأزياء هي أول ما يسترعي انتباه السائح في بلاد تختلف عن بلاده حضارة، ودينًا ولغة ومُعتقدًا، وقد أبدى معظم الرحالة إعجابهم بغرابة الأزياء البدوية وطرافتها، فتطرقوا لوصفها بدقة مُبرزين الفرق الظاهر بين أزياء الفقراء والأغنياء، وخاصة النسائية منها. ويبرز ضمن أزياء الرجل البدوي لباس الرأس، الذي، حسب قول الرحالة، يراوح بين الطربوش والكوفية والعمامة.
يوضح المؤلف كيف يستقبل المجتمع البدوي الطفل المولود الجديد، وكيف تُجرى مراسم العقيقة البدوية. ويُقدر البدو قيمة الماء لأنه أثمن من الذهب؛ بل هو الحياة في البيداء. ثم يتناول بعض العادات والتقاليد والقيم البدوية، فيذكر أن لكل قبيلة عادات خاصة، ومخالفتها عند البدو إثم كبير، ويشير إلى أن البيئة فرضت على البدوي تقاليده وعاداته، فليست العادة قائمة بذاتها، وإنما تعتمد على الظروف. ثم يتناول اعتقاد البدو في الجن، فيذكر أن الصحراء الواسعة الموحشة تفرض تأثيرها على فكر البدوي، إذ تخيل الصحراء آهلة بأحياء لها طبائع وحشية سماها الجن والعفاريت، والأشباح والغيلان. ويُشير إلى أنه وردت في ثنايا كتابات الرحالة خرافات وأساطير، وانتقادات قاسية للحياة البدوية، ليس لها مبرر سوى جهلهم بأحوال البلاد التي زاروها، وتعصبهم لأيديولوجيتهم الثقافية أو الدينية أو الاجتماعية. ويذكر أن الفكر البدوي قد عرف غرائب الخرافات والأساطير والأوهام والخوارق والأباطيل؛ فيؤمن البدو كثيرًا بالسحر والتنجيم والخرافات، وتنتشر بين البدو قصة الغول، التي لا تقتصر على المجتمع البدوي بل تحتل حكاياتها مكانة مرموقة في مجموعات الحكايات الشعبية العالمية.
يوضح الكتاب أن جميع الرحالة الذين زاروا العراق والجزيرة العربية قد اتفقوا جميعًا على أهمية الإبل لحياة البدوي في الصحراء، فهي أثمن ما يملك في حياته القاسية، إذ هي طوق نجاته في بحور الرمال العظيمة، ومصدر مأكله ومشربه وملبسه، واستخدم بعره كوقود بعد تيبسه، وبوله للتنظيف، وكدواء، ومادة لغسيل الشعر، فضلًا عن أهم خاصية، التي منحته اسمه الشهير “سفينة الصحراء”، وهي حمل البدوي وحاجياته وأثقاله إلى أمكنة لم يكن بالغها إلا بشق الأنفس. ورصد الرحالة مظاهر الذكاء واللطف والحنين والشوق عند هذه الأنعام، ورصدوا مظاهر تعامل البدو معها.
يتمتع الحصان العربي الأصيل ببنية جسمانية متينة ومتكاملة، وهو قليل الأمراض سريع الشفاء، لديه قدرة عالية على تحمل المشاق تحت أقسى الظروف، ويتميز بشجاعة فطرية تُساعده على الثبات في المعارك، ويحتفظ بهدوء نادر، ويأتي في مقدمة الخيول في العالم من حيث الذكاء، وقد تعجبت كثيرًا مما ذكره الرحالة عن ذكاء الفرس العربية الأصيلة، ويصطحبنا المؤلف في رحلة برفقة الرحالة لنرى كيف نظروا للحصان العربي؟ وكيف رصدوا تعامل البدوي معه؟
ينظر البدوي للصيد بالصقور باعتباره التسلية الرئيسة في البادية، ويُشكِّل الصيد جزءًا من طعام البدوي، ويستخدم الصقور في صيده، والصيد بالصقور من طباع البدوي. وينتقل إلى تناول التيمم والوضوء للصلاة. فيذكر أن الرحالة أوضحوا كيف يقوم البدوي بتحديد مواقيت الصلاة نهارًا بالظلال، وليلًا استدلالًا من ظهور الكواكب وغيابها. ويستخدم البدو في الوضوء أدوات نحاسية لنقل المياه. ويأم المصلين في الصلاة “المطوع”، هو الإمام الذي يرفع الآذان ويُعلِّم الناس القرآن والصلاة.
ينتقل الكتاب لتناول ما رصده الرحالة من مظاهر لشهر رمضان المبارك لدى بدو العراق وشبه الجزيرة العربية، مع استخدام المنهج المقارن لمقارنته بما رصده الرحالة لدى المدن الحضرية. فقد اعتنى الرحالة الأوربيون برصد مظاهر الاحتفال بشهر رمضان، وما يصاحبه من عادات وتقاليد بداية من ليلة الرؤية، والمسحراتي، ومدفع الإفطار، وفانوس رمضان، وعادات النساء المتوارثة في إعداد الحلويات ابتهاجًا بهذا الشهر. كما يرصد مظاهر هذا الشهر المبارك في الحرمين الشريفين، مكة المكرمة والمدينة المنورة، من خلال كتابات الرحالة، الذين رسموا صورة ناطقة حيّة عن احتفالات المسلمين به، ووصفوا حياة الناس خلاله بصدق وأمانة، في كلٍ من مكة المكرمة والمدينة المنورة، وذلك من خلال كتابات: لودفيكو دي فارتيما، وجوزيف بتس، وجون لويس بوركهارت، وجون فراير توماس كين، وكريستيان سنوك هيروجرونجي.
توافرت المعلومات الخاصة بشعائر الحج، حيث يذكر الرحالة الكثير عن استعدادات البدو للحج، والدروب التي ساروا فيها إلى مكة المكرمة، ومظاهر الاحتفالات بعد عودتهم، والتهاني المقدمة لهم من الأقران، ثم ماذا كان هؤلاء الحجاج يفعلون عندما يحل عيد الأضحى عليهم مرة أخرى، وهم في ديرتهم وبين أهلهم، وأصدقائهم. ويوضح بعد ذلك مظاهر الاحتفال بالعيد، فيشير إلى أن فرحة العيد تتباين من بلد لآخر، وتتنوع مظاهر التعبير عنها، إذ تبدأ بصلاة العيد، ويرتدي الأطفال أجمل الثياب، ويرافق كل طفل أباه أو أخاه إلى أداء صلاة العيد. وتتحول الشوارع، لاسيما في القرى، إلى ساحات للتعارف والتعانق وتبادل التهاني، أثناء السير لأداء الصلاة، وتتواصل بعد الصلاة صلة الرحم، فيتبادلون التهاني والزيارات في صورة تدل علي الإخاء والمحبة وصفاء النفوس.
تقوم حياة البدوي على التنقل والترحال وراء العشب والكلأ، وتجبره على امتلاك القليل من المتاع، والبسيط من الأدوات، لا يُثقل كاهله بأثاث، لأن كل شيء غير ضروري هو بمثابة عائق له. وكل ما يملكه البدو عبارة عن الملابس التي يرتدونها، وأسلحة، وسروج، وعدد قليل من القدور، وقرب الماء، والخيام المصنوعة من شعر الماعز، والحيوانات التي تُنظم تنقلاتهم. وإذا كان الطبخ البدوي يعتمد على أبسط الطرق، فإن أدوات المطبخ أيضًا تقتصر على الضروري جدًا. وتوجد الأواني الفخارية في كل مطبخ بدوي، ليستخدمها كأوعية للطبخ. ثم يتناول روح التضحية البدوية، فيرى أنها أكثر وضوحًا وأثرًا في حياة البدو في سبيل الحب، والضيافة، وحماية القصير، والنُبل.
يتناول بعد ذلك الكلك، وهو عبارة عن مركب يتخذه أهل العراق من الظروف والأزقاق، تُنفخ وتشد بعضها إلى بعض. ثم يُشير إلى اهتمام الرحالة بالشعر البدوي، وتحملهم مشاق السفر والترحال في بوادي الجزيرة العربية، لأجل الحفاظ عليه، وجمعوا منه الكثير في كتب، تُحسب لهؤلاء الرحالة والمستشرقين، الذين اهتموا بالتراث العربي الإسلامي عامة، وتراث البادية خاصة، مشيرًا إلى أن الشعر البدوي يُعرف بالشعر النَبَطِيّ، أو بالشعر العامي، لعدم تقيده بما يتقيد به الشعر الفصيح لغُويًا ونحويًا، ولأن مفرداته هي من اللهجة البدوية الدارجة، ولأن معظم شعراؤه من البدو.
ومؤلف الكتاب هو باحث تستشرف مكتبة الدراسات التاريخية الخليجية به باحثًا جادًا، حاصل على الماجستير بتقدير ممتاز عن أطروحته المعنونة “أثر الصراع المصري العثماني في الجزيرة العربية والشام على العراق 1831-1841″، والدكتوراه في تاريخ الخليج والعراق بمرتبة الشرف الأولى في موضوع “رؤية الرحالة لقيم وعادات عشائر العراق 1800-1958”. وله كتابات عديدة منشورة في المجلات والصحف، ويعمل مدير تحرير مجلة رواق التاريخ والتراث، التي تصدر عن مركز حسن بن محمد للدراسات التاريخية بدولة قطر.